سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا تُتلى عليهم آياتنا} أي: إذا قُرئت عليهم آيات القرآن، {بيناتٍ} واضحات، {قالوا} أي: المشركون {ما هذا}؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {إِلا رَجُل يُريد أن يَصُدَّكُم}: يصرفكم {عما كان يعبد آباؤُكم} من الأصنام. {وقالوا ما هذا} أي: القرآن {إِلا إِفْكٌ}: كذب {مُّفترىً} بإضافته إلى الله تعالى. {وقال الذين كفروا} أي: وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم، وغضب شديد، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد، {للحقِّ لَمَّا جاءهم} أي: للقرآن، أو لأمر النبوة كله، لما عجزوا عن معارضته، قالوا: {إِن هذا إِلا سحر مبين} أي: ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه، ولذلك سمُّوه سحراً.
قال تعالى: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يَدْرُسُونها} أي: ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها، فيها برهان على صحة الشكر. {وما أرسلنا إِليهم قبلك من نذيرٍ} أي: ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، ويدعوهم إليه، إذ لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم.
ثم هدّدهم بقوله: {وكذّب الذين من قبلهم} أي: وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الرسل، كما كذّب هؤلاء. {وما بَلَغُوا مِعْشَارَ ما آتيناهم} أي: وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون، من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد، وتوالي النعم، والظهور في البلاد. والمِعشار: مِفعال، من: العشر، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا: معشار ومرباع. وقال في القوت: المعشار: عشر العشر. {فكذَّبوا رسلي} أي: فكذبت تلك الأمم رسلي، {فكيف كان نكيرِ} أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك والتدمير. فالنكير: مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و (كيف) للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك؛ لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري: إن الحكماء والأولياء الذين هم الأئمة في هذه الطريقة إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا: مَن ذا الذي يطيق هذا؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش!.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. اهـ. باختصار. وقال في قوله تعالى: {وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها..} ما حاصله: إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. اهـ. وبالله التوفيق.


قلت: {أن تقوموا}: بدل من واحدة، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جلّ جلاله: {قلْ} لهم: {إِنما أَعِظُكُم بواحدةٍ} بخصلة واحدة، وهي: {أن تقوموا لله} أي: لوجه الله خالصاً، لا لحمية، ولا عصبية، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي، وهو القصد والتوجُّه بالقلب، وقيل: حسي، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه، يتفكر، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله: {مَثْنَى وفُرَادَى} أي: اثنين اثنين، أو فرداً فرداً. والمعنى: أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا فرداً. والمعنى: أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا لله، معرضين عن المِراء والتقليد، متفرقين اثنين اثنين، أو واحداً واحداً؛ فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر، ويخلط القول، ويمنع من الرويّة، ويقلّ فيه الإنصاف، ويكثر الاعتساف.
{ثم تتفكروا} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، حتى تعلموا أنه حق، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق، وكذلك المفرد، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن {ما بصَاحِبِكم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مِن جِنَّةٍ} من جنون، وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184]. ومنهم مَن يقف على {تتفكروا} ثم يستأنف النفي. قال القشيري: يقول: إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل، فأمعنوا النظرَ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم: فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قُلْتُم مجنون، فأيُّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلاَّ اعترفتم به أنه صادق؟!. اهـ.
{إِن هو إِلا نذير لكم بين يَديْ عذابٍ شديدٍ} أي: قُدَّام عذاب شديد، وهو عذاب الآخرة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بين يَديِ الساعة».
الإشارة: فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان، فأول ما يتفكر فيه الإنسان في أمره صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية، والشرائع المتباينة، مع كونه أُميًّا، لم يقرأ، ولم يطالع كتاباً قط، وما أخبر به من أمر الغيب، فوقع كما أخبر، وما ظهر على يديه من المعجزات، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام؛ من الأخلاق الحسنة، والشيم الزكية، وما كان عليه من سياسة الخلق، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة، ترقى بها إلى أنوار الربوبية، فيتفكر في عجائب السموات والأرض، فيعرف عظمة صانعها، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان، فيغيب عن نظرة الأكوان، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.


يقول الحق جلّ جلاله: {قل ما سألتكم عليه} أي: على إنذاري وتبليغ الرسالة {من أَجْرٍ} إذ لو كنتُ كذلك لاتهمتموني أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك {فهو لكم} ومعناه: نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو: ما لي في هذا فهو لك، وما تعطني تصدق به على نفسك. {إِنْ أَجْريَ} في ذلك {إِلا على الله وهو على كل شيءٍ شهيدٌ} فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم، ودعائكم إليه، إلا منه تعالى.
الإشارة: تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم، ولو اضطروا إلى ذلك؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً، يدمغ بهم على الباطل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8